تغيّرات إستراتيجية أميركية في المنطقة- طوفان الأقصى والصراع على سقف العالم

ممّا لا ريب فيه، أنّ عملية "طوفان الأقصى" قد أرغمت الولايات المتحدة على مراجعة العديد من الثوابت الإستراتيجية المتعلقة بمنطقتنا، وأبرزها ما يتصل بدور "الوسيط المتّسم بالحيادية"، وهو الدور الذي منحها مكانة مرموقة لعقود مديدة، وكأنّها كانت بالفعل تحرص على تحقيق التوازن في العلاقة بين العرب وإسرائيل كلما اختلّت هذه الموازين! وقد كان هذا الدور بمثابة نموذج مثالي مكّنها من تمرير العديد من مخططاتها في المنطقة، وتحقيق غايات جمة.
إلا أنّ الوضع لم يتوقف عند هذا المستوى من الانخراط العميق في الصراع إلى جانب إسرائيل، ومساندتها المطلقة، والوقوف معها صفًا واحدًا، بل سعت الولايات المتحدة إلى توجيه تهديدات صريحة إلى جميع الأطراف، وذلك بهدف منعها من التدخّل في هذا الصراع بأي شكل من الأشكال، ورفعت شعار "عدم توسيع نطاق الحرب" كستار تخفي من خلاله سماحها لإسرائيل بالانفراد بقطاع غزّة، وإنزال أشدّ أنواع القذائف الأميركية فتكًا على رؤوس سكانه، وفتح أبواب الجحيم عليهم، وهو الأمر الذي وصفه الخبراء بأنه يوازي فظاعة الحروب العالمية.
تحولات جوهرية
حتى جاء تدخل الولايات المتحدة المباشر في الحرب الدائرة في اليمن، وذلك من خلال شنّ غارات جوية وصاروخية بالتعاون مع سلاح الجو البريطاني؛ ليكسر هذا التدخل شعار "عدم توسيع نطاق الحرب"، ويفتح الباب على مصراعيه أمام تدخلات جديدة قريبة، سواء كانت محدودة النطاق أو واسعة، وليؤكد لنا حقيقة مفادها أننا نشهد تحولات جوهرية في الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، وبالتالي تحولات كبيرة على مستوى إستراتيجيتها العالمية، الأمر الذي سيجبرها على تخفيف حدة انخراطها في شؤون منطقتنا، ما لم تقم بتأجيل بعض خطوات المواجهة مع الصين، والتي باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
ممّا لا شك فيه، أنّ الضربات الموجّهة إلى الحوثيين ستزيد الأمور تعقيدًا في منطقة البحر الأحمر، ومن المرجح أنها قد تؤدي إلى إغلاق الملاحة فيه أو تعطيلها بشكل كبير، وهو ما قد يكون أحد الأهداف الخفية الكامنة وراء عسكرة المنطقة من قِبل الولايات المتحدة، وذلك في محاولة لتعطيل أو عرقلة المشروع الصيني الضخم "الحزام والطريق"، ولكن هذا المسعى لن يشفع لها حقيقة أنها تتسبب في إلحاق أضرار جسيمة بحركة الملاحة العالمية.
استنتاجات بالغة الأهمية
وبناءً على ذلك، فإنّ مجرد إمعان النظر في هذا الانخراط الأمريكي، يقودنا إلى استخلاص استنتاجات بالغة الأهمية، تشير إلى تدهور مستوى التفكير الإستراتيجي الأميركي، أو ربما غيابه التام، ويبدو أنّ هذا الأمر يصدق بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، التي تعتبرها الولايات المتحدة بمثابة الابن المدلل والوحيد! فالضربات الموجّهة إلى الحوثيين لن تقضي عليهم، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تمنعهم من مواصلة استهداف السفن الإسرائيلية.
علاوة على ذلك، فإن هذا التدخل يمنح الحوثيين فرصة تاريخية لاكتساب شرعية داخلية وإقليمية كانوا يسعون إليها جاهدين، فالضربات الجوية والصاروخية أعلنت – بشكل غير مباشر – أنّ البحر الأحمر قد تحوّل إلى ساحة حرب مفتوحة، وهي أسوأ رسالة يمكن أن تصل إلى مجتمع الملاحة البحرية العالمي.
نزاع محوري
وعلى ضوء ما سبق، يبدو أنّ الولايات المتحدة، والمنشغلة بالصراع المحموم على الهيمنة على العالم، وتسعى جاهدة لتقويض نفوذ أي طرف يطمح إلى منافستها في هذا المضمار، تعمل في الوقت ذاته على استغلال الصراع المفتوح في منطقتنا لتحقيق نفس الغاية، وذلك حتى لا تضيع جهودها سدى، فحضورها القوي للوقوف إلى جانب إسرائيل، التي تشنّ حملة تتجاوز جميع قواعد القانون الدولي والإنساني، لا يعني مطلقًا أنها على استعداد للتخلي عن الصراع على قيادة العالم، وإن أسمته إدارة بايدن مؤخرًا "التنافس مع الصين"، فهو في جوهره صراع محوري وضروري للحفاظ على موقعها المهيمن على قيادة العالم لعقود أخرى.
وهذا السلوك ليس بجديد على الولايات المتحدة، فقد اعتمدته في طريقها للانفراد بزمام القيادة العالمية منذ العدوان الغاشم على العراق، متجاهلةً بذلك مجلس الأمن الدولي والقانون الدولي، ومتجاوزةً الغضب العارم الذي اجتاح جميع دول العالم، بمن فيهم حلفاؤها الأوروبيون، فالهدف الذي تسعى إليه غالٍ ونفيس، ويستحق التضحية بكل شيء في سبيل الوصول إليه!
خواء إستراتيجي
ولكن بعد كل ما ذكرناه، هل يمكن إغفال حقيقة أنّ طهران تتحكم إلى حد كبير في مجريات هذا الصراع، فضلًا عن قدرتها المعهودة على استغلال الأخطاء الإستراتيجية الأميركية، التي أصبحت متوقعة بقوة، بل أصبح من السهل جدًا استدراجها إلى معارك تشتيت إستراتيجي؟
كما أنّ الملاحظة الجديرة بالتأمل، والتي يجب ألا تغيب عن أذهاننا، هي أنّ العرب تائهون بين قطبي الصراع: القطب الأميركي الذي ينجرف في مسار وجودي لإعادة بناء قوة الردع الإسرائيلية، ولو أدّى ذلك إلى استباحة العالم العربي بأكمله، والذي يعتبر بدوره مركز الثقل في الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، والقطب الإيراني الذي ينجح دائمًا في استثمار أخطاء أميركا، وخاصة في الإقليم، حيث يسود فراغ إستراتيجي هائل، وغياب للتوازن في ظل عدم وجود أي رؤية عربية موحدة، بما في ذلك العجز عن تحديد المصالح الذاتية، وهو ما يجعل منطقة المشرق العربي بأكملها تحت تأثير المظلة الإيرانية الآخذة في التمدد.
